07‏/06‏/2016

بحث النظام المالي الاسلامي


النظام المالي الاسلامي
خطة البحث:

مقدمة
المبحث الأول:مصطلحات النظام المالي الاسلامي و قواعده
   المطلب الأول: تعريفات لمصطلحات النظام المالي الاسلامي
   المطلب الثاني: قواعد النظام المالي الاسلامي
المبحث الثاني: أهداف النظام المالي الاسلامي و سياسته و إيراداته ونفقاته
   المطلب الأول: أهداف النظام المالي الاسلامي
   المطلب الثاني السياسة المالية في الاسلام
   المطلب الثالث: ايرادات و مصروفات النظام المالي الاسلامي
المبحث الثالث: خصائص النظام الاسلامي و وظائفه
   المطلب الأول: خصائص النظام المالي الاسلامي
   المطلب الثاني: وظائف النظام المالي الاسلامي
خاتمة


يولي الإسلام أمور المال عناية كبيرة ، فيهتم بموضوع اكتسابه وإنفاقه فيضع القواعد والمبادئ التي تنظمه باعتباره عصب الحياة ، وتقديراً لآثاره ودوره في حياة المجتمعات. ومما يؤكد أهمية المال، واهتمام الإسلام بذلك ورود لفظ المال في القرآن الكريم ست وثمانون مرة، وفي ذلك دليل على أن نظرة الإسلام إلى المال نظرة اهتمام وتقدير للآثار التي يحققها، فتوفر المال عامل من أهم العوامل التي تمكن الإنسان من تشكيل الحياة بالصورة الجميلة التي يسعى دوماً إلى تحقيقها  وهذه الصورة لا يمكن أن تتحقق أو تؤتي أُكلها المرجوة ، إن لم تدعم بالأنظمة والأجهزة المالية المناسبة لرعايتها والعمل على أدائها بما يخدم ويحقق أهداف المجتمع ونظراً لأن الإسلام يحرص أن يقوم المال بدوره السليم في حياة المجتمع ولا ينقلب إلى أداة فساد وإفساد ، فقد اهتم بتنظيم أُمور المال ووضع القواعد والمبادئ كالعدالة والملائمة والاقتصاد التي يستند إليها في تنظيم  المال العام ، حيث يعد النظام  المالي  في الإسلام بمثابة تخطيط دقيق وتنظيم علمي متكامل و ذلك . فما هي ميكانزمات النظام المالي الإسلامي؟

المبحث الأول : مصطلحات النظام المالي الاسلامي و  قواعده: نقوم في هذا المبحث بإعطاء مجموعة من التعريفات لمجموعة من المصطلحات المتعلقة بالبحث ثم نعرج على قواعد النظام المالي الاسلامي كالتالي:
المطلب الأول تعريفات  لمجموعة من مصطلحات:
و قبل أن نتطرق لمفهوم  النظام المالي الاسلامي، لا بد من التطرق لمفهوم المال.
مفهوم المال:لغة : المال ما يمتلك من كل شيء و يجمع من أموال , وفي لسان العرب ما يتملكه المرء من الذهب و الفضة , ثم أطلق على كل ما يقتنى و يملك من الأعيان .
اصطلاحا : ( اصطلاح الفقراء و المعاصرين ) المال ما كان له قيمة مادية وجاز شرعا الانتفاع به في حالة الاختيار، أي أن المال ما يمكن حيازته و الانتفاع به و التصرف فيه .
وبالجمع بين التعريفين يمكن القول أن: المال يتمثل في كل ما كانت له قيمة مادية و جاز للإنسان امتلاكه و الانتفاع به في حالة الاختيار، على أن يكون هذا الانتفاع ممكنا لكافة الناس لا من بعضهم.
و الإنسان مستخلف في الأرض على ما يملك من ممتلكات ، و يجب عليه التصرف في هذه الأموال بما يرضي الله عز وجل وفقا لتعاليم الله سبحانه و تعالى في الكتاب و السنة. و الإسلام لا يعتبر المال شرا، بل يعتبره خيرا و نعمة إذا اخذ من حله و أنفق في محله، و لم يبخل عن حقه. و قد كان النبي الكريم- صلى الله عليه و سلم- يدعو الله فيقول:" اللهم إني أسالك الهدى، و التقى و العفاف و الغنى" رواه مسلم، و امتن الله عليه فقال (و وجدك عائلا فأغنى) سورة الضحى: الآية 08.
و قال عليه السلام:" ما نفعني مال كمال أبي بكر" رواه الترميذي، و لقد جاءت نصوص و أحكام القرآن الكريم، و السنة تنظم شأن المال، و التعامل فيه، و تعتبره عصب الحياة، فلا يترك للحمقى و الطائشين ليتلفوه، مثل قوله تعالى  (و لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) . سورة النساء: الآية 05
كما أن أركان الإسلام فيها ركن يتعلق بالمال و توزيعه لمستحقه، و هو الزكاة. كما أن الموبقات السبع تتضمن كبيرتين تتعلقان بالمال، و هما:" أكل الربا، و أكل مال اليتيم ."  و عليه يمكن أن نعرف المال وفقا لتعريف- عبد المنعم عفر- كما يلي: " المال هو ما كان له قيمة مادية بين الناس و جاز شرعا الانتفاع به في حال السعة و الخيار".
و من واقع التعريف للمال في الفقه الإسلامي يتبين أن أهم الشروط الواجب أن تتوفر في الشيء حتى يعتبر مالا هي:
- إمكانية حيازته و إحرازه و امتلاكه.               -إمكانية الانتفاع به شرعا .

مفهوم التمويل في الإسلام :- لغة: أي أعطيه المال, فالتمويل هو إنفاقه أي أموله تمويلا، أي أزوده بالمال.
اصطلاحا: تتضمن كلفة و مصدر الأموال وكيفية استعمالها و طريقة إنفاقها و تسيير هذا الإنفاق.
لعل أهم ما استحدث من إجراءات ووسائل لتطبيق النظام المالي في الإسلام هو إنشاء الدواوين المختصة وأهم هذه الدواوين هو ديوان بيت المال الذي كان يمثل وزارة المالية أو البنك المركزي للدولة الإسلامية ، فهو يشرف على الموازنة العامة وفي استيفاء الموارد وضبط النفقات وغيره من الأعمال المتعلقة بالسياسة المالية للدولة ( ).
تعريف النظام المالي الإسلامي:
- يمكن أن نعرف النظام المالي الإسلامي بأنه مجموعة من الأحكام الشرعية التي وردت في القرآن الكريم ، و السنة النبوية، فيما يتعلق بالأموال و كيفية الحصول عليها و طرق ذلك، و كيفية التصرف فيها. أي: بالمالية العامة و كيفية جباية الإيرادات العامة من مصادرها المختلفة و المتعددة، و كيف يتم إنفاقها وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية.
- "مجموعة المبادئ والأصول الاقتصادية التي وردت في القرآن والسنة والتي تعالج الإيرادات العامة وإنفاقها، والموازنة بينها ، وتوجيهها لتحقيق أهداف الدولة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية "( )
تعريف بيت المال: بيت المال لغة: هو المكان المعد لحفظ المال، خاصا كان أو عاما.
وأما في الاصطلاح: فقد استعمل لفظ " بيت مال المسلمين"، أو " بيت مال الله " في صدر الإسلام للدلالة على المبنى والمكان الذي تحفظ فيه الأموال العامة للدولة الإسلامية من المنقولات، كالفيء وخمس الغنائم ونحوها، إلى أن تصرف في وجوهها. ثم اكتفي بكلمة " بيت المال " للدلالة على ذلك، حتى أصبح عند الإطلاق ينصرف إليه. وتطور لفظ " بيت المال " في العصور الإسلامية اللاحقة إلى أن أصبح يطلق على الجهة التي تملك المال العام للمسلمين، من النقود والعروض والأراضي الإسلامية وغيرها. والمال العام هنا: هو كل مال ثبتت عليه اليد في بلاد المسلمين، ولم يتعين مالكه، بل هو لهم جميعا. قال القاضي الماوردي والقاضي أبو يعلى: كل مال استحقه المسلمون، ولم يتعين مالكه منهم، فهو من حقوق بيت المال. ثم قال: وبيت المال عبارة عن الجهة لا عن المكان. أما خزائن الأموال الخاصة للخليفة أو غيره فكانت تسمى " بيت مال الخاصة"
وقد نشأ بيت المال منذ أيام النبي فقد وضع على الأموال أمينًا. ووضع صاحب جزية وصاحب عُشْر وصاحب خراج وعامل زكاة وخارصًا (مخمِّنا) وعيّن خَزَنة وضرب المكاييل.
وفي عهد عمر رضي الله عنه دُوّنت الدواوين لاتساع رقعة الإسلام وكثرة الأمة وتشعب الاحتياجات. فوضع ديوان الأنساب، وديوان الجند، وديوان الجزية، وديوان الخراج، وديوان الصدقات.
وبعد انتشار الإسلام في الشام والعراق نشأ ديوان الاستيفاء وجباية الأموال. وكان ديوان الشام بالرومية وديوان العراق بالفارسية. لينقل للعربية في زمن الخليفة الأموي عبد الملك ابن مروان .
المطلب الثاني :قواعد وأسس النظام المالي الإسلامي: نلخصها فيما يلي:
أولا- العقيدة: نجد من أهم آثار العقيدة الإسلامية انقياد المسلم للأوامر، والنواهي التي جاءت بها الشريعة لاعتقاده أن الله الخالق القادر الذي شمله بنعمه هو مصدر هذه الأوامر، والعمل بمرضاة الله وشكره على نعمته، فالعقيدة الإسلامية تحمي المسلم الحق من الوقوع في الخطأ، وتحمي فيه روح المراقبة لله الخالق الذي يعلم السر و أخفى.




قال تعالى ( اعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه) البقرة 635. فالمسلم صحيح العقيدة قوي الإيمان، يعمل الخير، وينتهي عن مخالفة الشريعة دون رقيب خارجي.
ثانيا – المساواة بين الناس: المساواة دعامة أساسية تحقق للأفراد والجماعات العدل في المعاملات، وتحميهم من عبث العابثين، وانحرافاتهم، فليس هناك تفاضل بين مسلم وآخر إلا بقدر عمله الصالح.
وفي هذا يقول جل شأنه (يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلنكم شعوبا. وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليم خبير) سورة الحجرات  الآية 13بين لنا الرسول صلى الله عليه وسلم – مبدأ المساواة في عبارات واضحة في خطبة حجة الوداع.فقال – صلى الله عليه وسلم:  – "يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، و إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا أعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود ، ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى". مسند احمد.
وقد حقق الإسلام المساواة في شؤون الاقتصاد، فجعل الناس سواسية أمام الفرص المتاحة، وجعل من حق كل فرد أن يمتلك وان يعمل، محققا تكافؤ الفرص بين الناس في ميادين النشاط الاقتصادي المختلفة ليأخذ كل عامل من ثمرات عمله وجزاء اجتهاده.
ثالثا – العدل: قال الله تعالى " يأيها الذين امنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألاّ تعدلوا اعدوا هو اقرب للتقوى"  سورة المائدة : الآية: 08
فالعدل يطمئن الناس على حقوقهم ونتائج أعمالهم فلا يخشون تسلط الأقوياء، وبطش الحكام. فالاستقرار، والنمو، والازدهار الاقتصادي ليس له من سبيل سوى نشر العدل بين الناس، والقضاء والحكم به .
رابعا – التكافل الاجتماعي : يقوم على إيجاد مجتمع فاضل متماسك بمبادئ وأحكام الشرع الحنيف، قال عز وجل ( كنتم خيرا امة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر وتؤمنون. بالله ) سورة آل عمران : الآية 110
والمسؤولية في ذلك جماعية، وفي ذلك يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم – "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله، وهو مسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية في البيت زوجها ، وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده وهو مسؤول عن رعيته فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته " رواه البخاري ومسلم. أي لا يوجد فرد معفى من رعاية مصالحه ومصالح الأخر،  ما يؤدي للتكافل الاجتماعي في الاسلام، والذي يقوم عليه اقتصاده ، وبه تنمو ثروته و دخله.
خامسا – الالتزام بالمقاصد الشرعية للأموال: يمكن أن نجملها حسب ما حددها الفقهاء في النقاط الخمسة التالية:
-1 وضوح الأموال: هو تيسير عملية امتلاكها، واستغلالها، وتوظيفها واستعمالها بحيث تتبين الطرق المباحة، وتظهر الوسائل المشروعة ما يؤدي إلى الابتعاد عن المنازعات، والخصومات كما يراعي تحقيق هذا المقصد في الأموال العامة، وذلك بإبعادها عن الانتهاب، وأخذها بطرق الاحتيال المتنوعة.
-2 حفظ الأموال: يعرف محمد الطاهر بن عاشور المقصود بحفظ المال فيقول :"هو حفظ أموال الأمة من الإتلاف ومن الخروج إلى أيدي غير الأمة بدون عوض،وحفظ أجزاء المال المعتبر عن التلف بدون عوض "
-3 ثبات الاموال :المقصود بها استمرارها لأصحابها و دوامها لهم في الإطار الشرعي، و هذا يقتضي عدة أمور منها:
- اختصاص المالك في أمواله في الحدود المشروعة دون ضرر أو خطر.
- حرية التصرف في دائرة الضوابط الشرعية و الحدود الموضوعية.
- ألا يؤخذ المال من صاحبه دون رضاه.
-4 العدل في الأموال :يقصد بالعدل في الأموال أن يكون حصولها بالطرق الشرعية المختلفة و أن لا تكون عملية ظلم في اكتسابها وتحصيلها .ومن مقتضيات العدل في الأموال أن تكون عمليات الاستثمار، والتنظيم والاستخدام مبنية على قواعد الشرعية، وضوابطها التي يؤدي تطبيقها إلى تحقيق المصلحة الاجتماعية لأفراد الأمة مثل قاعدة حرمة الربا، وحرمة الاحتكار، والغش.
5- رواج الأموال: "الرواج دوران المال بين أيدي أكثر ما يمكن من الناس بوجه حق، وهو مقصد شرعي عظيم ". فان فلسفة الإسلام مبنية على أساس اعتبار أن مصالح الدنيا مبنية على مصالح الآخرة، ولذلك فالمصلحة العليا تقتضي ترويج وتداول المال دون الخوف من الفقر بالنسبة للمنفقين، طالما كانت في الحدود المشروعة، قال الله تعالى :" ما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين ". سورة سبا : الآية139.
وكنتيجة لهذا المبحث –نقول ان النظام المالي العام الإسلامي هو مجموعة أحكام شرعية تتعلق بالمال، فيضع له أسس وقواعد واضحة، خاصة تحقيقه لمقصد إبعادها عن الانتهاب، واستغلاله فيما يرضى المولى عز وجل، فالنظام المالي الإسلامي نظام مستقل، شرعي وشامل، ويؤثر في كافة جوانب الحياة، إذا انه يعمل داخل نظام اقتصادي تحدد أحكامه الشرعية الإسلامية.

المبحث الثاني: أهداف و سياسة النظام المالي ، ايراداته و مصروفاته:
المطلب الأول: أهداف النظام المالي الإسلامي : إن الحياة الاقتصادية وأوجه النشاط الاقتصادي في المجتمع لها جوانب متعددة وتسعى الدولة في هذا المجال إلى وضع أهداف محددة تسعى إلى تحقيقها في الحياة الاقتصادية عبر وسائل وأدوات محددة ويمكننا اعتبار أهم أهداف النظام المالي الإسلامي:
1)تحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية (الضمان الاجتماعي) ويشمل العمل بهذا المبدأ نقطتين رئيسيتين:-
أ/ ضمان حد أدنى من الدخل (حد الكفاية) لكافة أفراد المجتمع.
ب/ مواجهة أي تفاوت في مستويات الدخل والثروة داخل المجتمع وتقليل الفجوة في مستويات الدخل.  
2)تحقيق التنمية الاقتصادية وذلك من خلال استغلال الموارد الاقتصادية بصورة مثلى "التوظيف الكامل للموارد"
3)تحقيق الاستقرار الاقتصادي وذلك من خلال المحافظة على مستوى النشاط الاقتصادي في قطاعات الدولة المختلفة والعمل على رعايتها وتنميتها بما يضمن تحقيق القوة والعزة الاقتصادية.
وهذه الأهداف الثلاثة هي الأهداف الرئيسية والتي يتشعب عنها عشرات الأهداف الوسطية التي تتدرج في مستوياتها وأهميتها ومن أمثلة ذلك:1- مواجهة الأوضاع الطارئة وغير العادية .
 2 - تسيير العمل في أجهزة الدولة وهو ما يطلق عليه مصطلح المصالح العامة.
3- التوازن والاستقرار بين أجيال الأمة.          4- القيام بالواجبات الكفائية في جميع المجالات .

المطلب الثاني : السياسة المالية في الإسلام: يعتمد أي نظام لتحقيق أهدافه على سياسة معينة ، والنظام المالي الإسلامي كأي نظام مالي لا بد  له من سياسة يعتمد عليها للوصول إلى أهدافه وهو ما يطلق عليه بالسياسة المالية للدولة التي تمثل الجانب التطبيقي للنظام المالي في الإسلام حيث تسعى الدولة من خلالها إلى الموائمة بين المبادئ والأصول العامة التي تشكل النظام المالي والواقع المتغير الذي يعيشه المجتمع في أي عصر من العصور، حيث تربط بين اهداف المجتمع في أي عصر من العصور والأدوات المالية للنظام بصورة تحقق مصلحة المجتمع.
والسياسة المالية في الإسلام هي جزء من السياسة الشرعية باعتبار أن النظام المالي جزء من التشريع الإسلامي فإذا كانت السياسة الشرعية تعني " فعل شي من الحاكم لمصلحة يراها وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي."
وإنما يشترط في هذه الأحكام أن تكون متفقة مع روح الشريعة و الاصول الكلية ولا تتعارض معها وعليه تكون السياسة المالية في الإسلام "مجموعة الوسائل المستخدمة لتدبير الموارد المالية التي تكفل سد النفقات التي تقتضيها المصالح العامة وتوجيهها لخدمة أهداف المجتمع.ويعرفها البعض"بالسعي لتحقيق واقع هو أقرب إلى أهداف المجتمع ".
ويعرفها البعض الآخر بأنها: استخدام الدولة لإيراداتها ونفقاتها بما يحقق أهدافها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في ظل ما تعتقد من عقائد وفي حدود إمكانيتها المتاحة.
و يشترط كذلك في هذه الوسائل أن تكون السياسة في الإسلام مبنية على أسس العدل والرحمة والتوفيق بين المصلحة العامة ومصلحة الأفراد، ولضمان أن تتصف بذلك لا بد من توفر أمرين:
أولاً: أن يراعي في الحصول على الإيراد العدل والمساواة بحيث لا يطالب فرد بأكثر مما تتحمله طاقته وتستدعيه الضرورة
الثاني: أن يراعي في عملية الإنفاق مصالح الدولة فلا تراعي مصلحة دون أخرى بل تغطى النفقات حسب أهميتها فلا يكون نصيب المهم أوفر من نصيب الأهم وكل هذا في حدود الموارد والإمكانات.

المطلب اثالث: ايرادات و مصروفات النظام المالي الاسلامي: تعتمد السياسة المالية لتحقيق أهدافها على الأدوات المالية للنظام أي على الإيرادات العامة والنفقات العامة بمختلف أنواعها.
يقتضي الإنفاق العام أن يلتزم بمبادئ الشرع الحنيف لتحقيق الأهداف المرجوة. أما الموازنة فهي المعادلة والمقابلة والمساواة بين الموارد المالية الإسلامية وأوجه الإنفاق المختلفة وهو ما تحرض عليه الدولة الإسلامية تنفيذا لتعليمات الخالق جل وهلا حيث يقول " والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولو يقتروا كان بين ذلك قواما " والقوام يعني الوسط والاعتدال ، و يرى المفكرون الماليون أن أدوات السياسة المالية في الإسلام هي نفس الأدوات المالية في النظم المالية الوضعية وهي الإيرادات العامة والنفقات العامة بمختلف أنواعها  .
1- الزكاة: هي فريضة فرضها الإسلام , تعتبر من أركانه الخمسة تؤخذ من الأغنياء وتعطى للفقراء, عملا بقوله تعالى: "والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم"[سورة المعارج: الآيتان 24-25], و "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها" [سورة التوبة: آية 103].
مصادر الزكاة: *زكاة المواشي: الإبل والغنم والبقر        * زكاة الذهب والفضة          * زكاة التجارة
               *زكاة المعادن                          *زكاة الزروع والثمار      
 كيفية صرف أموال الزكاة: ينفق مال الزكاة في جهات ثمان, حسب ما ورد في قوله تعالى: "إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم" [سورة التوبة: اية 60]. الفقراء, هم الذين لا شي لهم; المساكين, هم الذين يملكون شيئا قليلا (وقيل العكس); ا لعاملون عليها, القائمون بجبايتها وتفريقها;  المؤلفة قلوبهم, هم الذين كان النبي وخلفاءه يتألفونهم لكف أذاهم عن المسلمين, أو لترغيبهم في الإسلام;  وفي الرقاب: مساعدة العبيد على التحرر من أسيادهم ; الغارمون: هم المدينون الذين استدانوا في مصالح أنفسهم, أو في مصالح المسلمين, فيعطى لهم ما يقضون به دينهم;  وفي سبيل الله: أن تعطى للغزاة, وأهل الجهاد في سبيل الله, نفقة ما يحتاجون إليه في حروبهم-  وأبناء السبيل: هم المسافرون المنقطعون في بلد ما، فيعطون ما يرجعون به إلى بلدهم وأهلهم.
2-الخراج: هي مقدار من المال أو المحاصيل, كانت تفرض على الأراضي التي صولح الأعاجم عليها (أهل الذمة اليهود والنصارى), ولا تسقط إذا اسلم الذمي. وتؤخذ ضريبة الخراج عن الأراضي التي فتحها المسلمون عنوة (بقتال) وعن الأراضي التي أفاء الله بها على المسلمين فملكوها وصالحوا أهلها عليها, ولم يكن مقدار الخراج ثابتا.
ضريبة الخراج كانت تفرض على:
ا. الأراضي التي فتحها المسلمون عنوة (بالقتال), إذا عدل الخليفة عن تقسيمها على المحاربين, بعد أن عوضهم عن نصيبهم فيها; كما فعل الخليفة عمر بن الخطاب في ارض السواد في جنوب العراق.
ب. الأراضي التي أفاء الله بها على المسلمين (إي حصلوا عليها دون قتال) فملكوها, وصالحوا أهلها عليها, على أن يتركوها المسلمون بخراج معلوم, يئدونه إلى بيت المال, وبهذا تصبح الأراضي ملك للدولة الإسلامية بفعل عملية الفتح, فتبقى بأيدي أصحابها السابقين من أهل الذمة (النصارى واليهود والمجوس) للاستفادة منها مقابل دفع خراجها, فلا تسقط ضريبة الخراج عنا إذا اسلم الذمي. وكان الخراج لا يفرض على ثلاثة  أنواع من الأراضي, بل يدفع عنها أصحابها عشر ثمارها و محصولاتها، وتسمى : الأرض العشرية, وتشمل : 1- الأرض التي أسلم أهلها, وهم عليها دون قتال, فتترك لهم.
2- الأرض التي ملكها المسلمون بالقتال وقهرا, إما من أهل الذمة, أو من المشركين, فتعتبر غنيمة حرب, تقسم بين الفاتحين.
3- أراضي الموات (البور), التي تمنح للمسلم ليستصلحها.
مقدار الخراج: لم يكن مقدار الخراج ثابتا; وقد جرى تحديدها بإحدى الوسيلتين: أن تحسب على أساس مساحة الأرض, إي حساب المساحة; أو أن تحسب على أساس ما تنتجه الأرض من الزرع; وهذا يعتمد على مدى خصوبة الأرض.
كيفية صرف الخراج: إنشاء مشاريع عامة لخدمة عامة المسلمين مثل: حفر قنوات للمياه لتوصيل الماء إلى الأراضي البعيدة وإقامة السدود والجسور على الأنهار الكبرى وتعبيد الطرقات.
3. الجزية: هي ضريبة شخصية فرضها الإسلام على الرجال القادرين من أهل الذمة (النصارى واليهود والمجوس) مقابل بقائهم على دينهم, والكف عنهم, والحماية لهم فهم في ذمة المسلمين. تسقط الجزية عن الذمي في حالة إسلامه ويدفع الزكاة, فقد حدد الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب مقدار الجزية : 48 درهم من الأغنياء, 24 درهم من موسطي الحال, 12 درهم من الفقراء تؤخذ الجزية من الذكور و سقطت عن النساء والصبيان والشيوخ والعميان والمعاقين والمقعدين والمجانين ، ورجال الدين إلا إذا كانوا أغنياء.
طرق جباية الجزية: حث الإسلام على الرفق والإنصاف في جباية الجزية من الذميين. وحماية أرواحهم وأموالهم من عبث الجباة; فلا يعذبون أو يهانون ولكن يرفق بهم ويسجنون في حالة عدم دفعهم الجزية; كما انه باستطاعة الذمي الامتناع عن دفع الجزية إذا لم توفر له الحماية.
كيفية صرف الجزية: تصرف في مصالح الدولة العامة مثل النفقة على المسجونين, المعدات الحربية.
4.الفيء والغنيمة : حصل المسلمون على الغنائم في أكثر غزواتهم في بدر وفي خيبر وفي حنين.. وفي غير ذلك.
كما حصلوا على الفيء في أماكن ومواقع أخرى مثل ما وقع في غزوة بني النضير.. ووادي القرى وفدك.
وننبه إلى أن هناك فرقا بين الفيء والغنيمة.
فالفيء: هو ما أخذه المسلمون من مال الكفار المحاربين من غير قتال، وأما ما أخذوه منهم بالقوة والقتال فهو غنيمة.
ولكل منهما حكمه وجهته التي يصرف فيها، فالفيء خاص برسول الله صلى الله عليه وسلم يصرفه كيف شاء وفيه يقول الله تعالى:  }مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ{  (الحشر: 7)
وأما الغنيمة: فإنها تخمس فأربعة أخماسها للمقاتلين والخمس الباقي لبيت مال المسلمين يصرف في مصالحهم العامة وفيها يقول الله تعالى}:  وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{  ( الأنفال: 41).
5. العشور( المكوس): يرجع هذا نظام إلى عهد الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب وهي ضريبة فرضها المسلمون على التجار الأجانب الذين يأتون ببضاعتهم من دار الحرب: -وهي التي لا تطبق فيها نظم الإسلام، وهي في حالة حرب مع الدولة الإسلامية- إلى دار الإسلام  وقد حدد العشور بعشر البضاعة تؤخذ من كل تاجر مرة واحدة من السنة.
-الركاز والمعادن : الركاز هو مال دفن في الجاهلية ووجد، وهو المعدن الذي يوجد بغير عمل، ولبيت مال المسلمين الحق في الخمس منها، أمل المعادن فلا زكاة فيها سوى الذهب والفضة.
الموارد الأخرى: وتتمثل في الأموال التي ليس لها مستحق كالأموال التي لا يعلم لها مستحق ، والأموال التي ليس لها مالك معين مثل من مات من المسلمين وليس له وارث معين ، ومن الموارد أيضا الأوقاف التي لا متولي لها ، وذلك على شروط واقفيها إذا عرفت هذه الشروط إضافة إلى الأموال التي يصالح عليها المسلمون أعدائهم ، وما يهدونه إلى المسلمين وإيرادات الدولة من أموالها –إيرادات الدومين- كما كانت تحصل الدولة على تبرعات يقدمها أغنياء المسلمين كنفقات لتجهيز الجيوش ، وللولي أن يحدد المبلغ الواجب تحصيله على ضوء ما تمليه الحاجات الضرورية للمجتمع ، حسب قول الرسول صلى الله عليه وسلم:" إن في المال حقا سوى الزكاة".
مصروفات بيت مال المسلمين: لقد نص القران الكريم على أوجه صرف بعض موارد بيت المال, كالزكاة, والفيء, والغنيمة كما بينا سابقا, أما بقية موارد بيت المال, فكانت تنفق على الأوجه التالية:
1. أرزاق القضاة والولاة والعمال وصاحب "بيت مال المسلمين", وغيرهم من الموظفين.
2. أرزاق الجند, ويراد بها رواتبهم, التي يقبضونها في أوقات معينة من كل عام.
3.إنشاء مشاريع عامة لخدمة عامة المسلمين مثل: حفر قنوات للمياه لتوصيل الماء إلى الأراضي البعيدة وإقامة السدود والجسور على الأنهار الكبرى.
4. النفقة على المسجونين, والأسرى من: معاش, ومشرب, وملبس.
5.شراء المعدات الحربية.
6.الإنفاق على العلماء والأدباء والشعراء كتشجيع لهم.
7. الإنفاق على الخليفة وقصر الخليفة وحاشيته وكل ما يتطلب من ذلك.
وظيفة وأهمية بيت المال: لا شك أن بيت مال المسلمين قد لعب دورا هاما في حياة الدولة الإسلامية, وخير دليل على ذلك, المصروفات التي كان يقوم بها; لاسيما تلك التي نص عليها الشرع الإسلامي ففريضة الزكاة, سعت إلى التكافل الاجتماعي , في حياة المجتمع الإسلامي ; إذ فرضت على المسلم القادر ماليا, لمساعدة الفقراء المساكين.

المبحث الثالث: خصائص النظام المالي الاسلامي و وظائفه
المطلب الأول: خصائص النظام المالي الإسلامي: إن حديثناً عن مزايا وخصائص النظام المالي الإسلامي هو حديث عن خصائص التشريع الإسلامي باعتبار أن النظام المالي جزء منه ، حيث أنه لم يشذ عن سائر ما سنه الإسلام من تشريعات بل إن النظام المالي الإسلامي استطاع أن يبرز الكثير من المزايا والخصائص المتعلقة بالتشريع الإسلامي سواء في الجانب النظري أو التطبيقي باعتباره جزء من هذا التشريع ومنبثق عن هذه الأرضية والقاعدة . و سنحاول ذكر أبرز لخصئص.
1.أنه شرعي رباني: لأنه يحتكم إلى الدين الإسلامي المنزل من عند الله سبحانه و تعالى، و يعتمد على النصوص الشرعية من القرآن الكريم و السنة النبوية، و إجماع العلماء في أحكامه و أصوله.
-2 الشمولية: و يقصد أن أصول و قواعد و أحكام النظام المالي المستمدة من الدين تعالج و تلبي كل جوانب الحياة الإنسانية: الدينية و المادية، و الأخروية، و الاجتماعية، و الاقتصادية و السياسية بشكل متوازن لا يطغى جانب على جانب آخر لأن الله خلق الإنسان من جسد و روح و سن له من الأحكام و التشريعات التي تحفظ له كل ذلك و تحقق لهما التوازن:  قال تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض و. ابتغوا من فضل الله و اذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون)
سورة الجمعة: الآية 10
-3 الاستقرار و الانضباطية: إذ أن أصول هذا العلم ثابت لا تتغير مما جعل الأحكام المالية العامة الإسلامية تتمتع بميزة الاستقرار التي تفتقدها كل الأنظمة الأخرى ، فالأفراد و الدولة في الاقتصاد الإسلامي يعرف كل منهم واجبه و حقوقه
4:الوسطية: والوسطية احدى الخصائص العامة للإسلام والتي ميز الله بها أيضاً أمته عن غيرها من الأمم






يقول تعالى[ وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ...] (البقرة:143).
والوسطية تعني أخذ الأمور بالاعتدال فلا يطغى جانب على آخر كما اشار إلى ذلك حديث الرسول "ص "ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا ، ولكني أصوم وأفطر ، وأنام وأقوم وآكل اللحم ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني"  .
مثال ذلك الاعتدال في موقفه من الملكية والحرية والإنفاق  وغير ذلك من الموضوعات. ويتضح معنى الوسطية ونتائجها من خلال الحقائق الثلاثة الآتية:  
1) تعدد الأهداف التي طالبت بها الشريعة ففي مجال الاقتصاد والمال ذكرنا العديد من الأهداف وهذه الأهداف يمكن أن تستقي منها عشرات الأهداف الوسطية وهذا ينطبق على بقية المجالات.
2) أن الأهداف الشرعية قد تتدرج قوة طلبها شرعاً من مستوى الفرض في أدنى درجات الهدف ثم مستوى المندوب ثم المباح في أقصى الدرجات.
3) أرشدت الشريعة إلى مراعاة أثر التصرف الواحد على مختلف الأهداف وأوجبت الاعتدال في تحقيق أي هدف بعينه إذا كان تحقيق أقصى درجات ذلك الهدف يبعدنا عن أهداف أخرى، وهذا التصرف له مثيله في الاقتصاد حيث أن التصرف الاقتصادي الرشيد في استهلاك عدة سلع يفترض تساوي النسبة بين المنافع الحدية لهذه السلع مع أسعارها.
5:الجمع بين الروح والمادة: حيث أن الإسلام دين الفطرة الإنسانية السليمة التي تراعي أن الإنسان مخلوق من روح ومادة واحتياجاته منها الروحية ومنها المادية .
ولهذا مزج الإسلام مزجاً تاماً بين مصالح الإنسان البدنية والروحية لأن الإنسان كل لا يتجزأ ولا يمكن أن تتحقق سعادته كاملة إلا إذا ارتقى مادياً وروحياً فيسعد في الدنيا والآخرة .( )
وتعتبر هذه الطريقة الوحيدة التي تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات الأخرى التي قضى الله تعالى أن يختصها بناحية واحدة لا بديل عنها ، فالملائكة مثلاً تختص بالروحانيات والعبادة، أما الحيوانات فتختص بالغرائز والشهوات المادية ، فإذا استطاع الإنسان أن يجمع بين هاتين الناحيتين سما وأصبح أفضل من كل المخلوقات ، وهذا ما يسعى الإسلام إلى تحقيقه من خلال أحكامه وتشريعاته التي تنظم حياة الإنسان حيث يحدث التوازن بين متطلباته المادية والروحية.
كما أن هذه الصفة ميزت الإسلام عن الديانات المحرفة التي انحرفت عن جادة الصواب فلم توفق بين متطلبات الإنسان المادية والروحية ، فاليهودية حرفت نحو المادية القاتلة ، وجاءت ردة الفعل في المسيحية معاكسة فاتجهت إلى المتطلبات الروحية وأهملت المتطلبات المادية ، ولكن الإسلام باعتباره خاتم الأديان والرسالات جعل من تعاليمه الأساسية التوافق بين احتياجات الإنسان المادية والروحية وجاء ليلائم فطرة الإنسان السليمة.
6:التوافق بين المصلحتين العامة والخاصة: تقوم النظم الوضعية على اتجاه غير صحيح ، الرأسمالية تعطي للفرد كل شي وتقوم على أساس الحرية الكاملة للأفراد في مجال الملكية والإنتاج والاستهلاك، كما أنها تعتبر أن مصلحة الفرد مقدمة على المصلحة العامة ، والعكس تماماً في الاشتراكية حيث تصادر حقوق الأفراد ولا تعترف إلا بالمصلحة العامة وكلا الاتجاهين خاطئ في التعامل مع هذه الناحية. والمنهج الصحيح في هذه الناحية هو منهج الإسلام الذي يوفق بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة، فالفرد في الإسلام له الحق في الحرص على مصلحته وتحقيقها ورعايتها ولكن الأمر ليس على إطلاقه بل له ضوابطه وحدوده فالإسلام يعطي للفرد حق الحفاظ على مصلحته ورعايتها في حدود أحكام الشرعية وبحيث لا يضر بغيره أو بالصالح العام.
والإسلام ينظر إلى الحياة الإنسانية على أساس أن المجتمع الإنساني يتكون من أفراد لهم صفاتهم الفردية وعلاقاتهم الاجتماعية، لذا جاءت النظم الإسلامية مهتمة بالجانبين الفردي والجماعي من الحياة الإنسانية، فكانت العناية بكل المصالح الفردية والجماعية وفق نسق خاص يجمع بينهما ويحرص عليهما ما دام ذلك ممكناً إلاّ إذا تعارضتا فتقدم المصلحة الجماعية على المصلحة الفردية  .

و الإسلام له منهجه الخاص في الحفاظ والتوفيق بين المصلحتين ويقوم هذا المنهج علي ثلاثة أركان أساسية:
الأول: أن مناط الإسلام هو المصلحة.
الثاني: التوفيق بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة في حالة التعارض.
الثالث: تقديم المصلحة العامة علي المصلحة الخاصة في حالة عدم امكانية التوفيق.
وهكذا يقوم النظام الإسلامي بريئاً من جميع العيوب المقصودة في الأنظمة الاقتصادية الاخرى، فلا فردية مطلقة تجعل مصلحة الفرد مقدمة على كل المصالح دون أي التزام نحو المجتمع ، وليست جماعية مطلقة تتجاهل ذاتية الفرد ولا تقيم لكيانه وزناً في تكوين المجتمع وخط سيره وتعامله كأنه جزء من آلة كبيرة لا حرية له ولا إرادة ، ولكن طريق الإسلام في ذلك وسط عدل موزون يعترف بذاتية الفرد ودوره المهم في تكوين المجتمع، ومن ثم يرتب على الفرد واجباً للمجتمع أن يكون في خدمته ، كما يقرر مسئولية المجتمع عن الفرد، فيترتب على المجتمع واجباً أن يرعي الفرد . وكل هذه الأوضاع تكون وفقاً للمصلحة العامة  .
7:التوازن (القوامة) : كما رأينا في البنود السابقة فإن منهج الإسلام يقوم على أساس من التوازن في جميع الأمور فوفقاً لهذا المنهج يتحقق الانسجام بين مصالح الفرد والجماعة ، وبين متعة الدنيا وثواب الآخرة، وبين المتطلبات المادية والروحية ، فلا يطغى جانب من هذه الجوانب على الآخر لأنه يؤدي إلى الاختلال إفراطا وتفريطاً .
ونلحظ هذا المنهج واضحاً في كثير من المجالات في الحياة العملية ففي مجال الإنفاق مثلاً يضع الإسلام القاعدة المتوازنة يقول تعالى [ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا ] (الإسراء:21)،                            ويقول أيضاً :[ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما....] (الفرقان:67).
وهذا المنهج الذي يحفظ التوازن في كل شيء هو(العدل) أو (القوامة) أي لا تقوم أمور الحياة بالصورة الصحيحة بدونه لأن اختلال التوازن يعني الإفراط في جانب على حساب التفريط في جانب آخر ، وهذا يتنافى مع العدل الذي قامت به السموات والأرض.
8:المرونة: لقد اقتضت مشيئة الله تعالى وهو العليم بالخير لعبادة أن يكون التشريع الإسلامي خاتم الرسالات ولذا فقد أحكم الله تعالى هذه الشريعة لأنه لن تأتي رسالة بعدها لتنسخها ، وحتى تظل هذه الشريعة صالحة على مدار الزمان ، ولعل من تمام الأحكام في هذه الشريعة أن جعل الله تعالى التعاليم الإسلامية المنظمة لهذه الحياة ذات طبيعة كلية وتوجيهات عامة غير مفصلة بل مجملة في كليات ، وهذا التعميم في نصوص الشريعة وعدم التفصيل في الجزئيات ـإلا في حالات معدودة ـ يعطي للأجيال المقبلة القدرة على تطويع هذه النصوص والأحكام الكلية ووضع التفاصيل الجزئية بما يتلاءم مع ظروف وأحوال كل عصر  ، لأن كل عصر يقتبس ما يناسبه من أحكام بما يتلاءم مع ظروفه وفقاً لهذه القواعد والتوجيهات العامة وهذا من شأنه أن يوفر عنصر المرونة في تطبيق التشريع الإسلامي على مر الزمان ، بل على جميع الظروف والأمكنة لتواكب التطورات التي تطرأ على الحياة الإنسانية ، وهذا يتطلب استمرار عملية التفكير والاستنباط في الصيغ الموافقة لهذه التطورات وبما يتفق مع الأسس والمبادئ العامة التي جاء بها القرآن الكريم والسنة النبوية.
9:الواقعية : التشريع الإسلامي يتعامل مع الأمور كلها بواقعية تامة ،وبعيداً عن الخيال والمثالية ، والأمثلة في تشريعنا الإسلامي متعددة تدل على مدى واقعية هذا المنهج فتنفيذ وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية لم يترك أمرها لإرادة الإنسان إن أراد الالتزام بها أم لا ، بل تعامل مع الموضوع بواقعية حيث لم يكتف الإسلام بإشعار الأفراد وتربيتهم على الالتزام بأحكام الشريعة بوازع الإيمان والتربية الإسلامية الصحيحة التي تدفع الإنسان إلى الالتزام بأوامر الشرع ، بل أسند إلى الدولة أمر تنفيذ هذه الأحكام بقوة وسلطة الشرع ، فليس كل الأفراد على مستوى واحد في التزامهم وقوة الوازع الديني بل متفاوتون في ذلك ، فإذا ترك هذا الأمر  لإرادة الأفراد حدثت الفوضى وضيعت أحكام الدين.
وكذلك إذا نظرنا إلى الكيفية التي عالج بها التشريع الإسلامي الفقر عرفنا مدى الواقعية التي يتمتع بها، فهو لم يكتف بإشعار الأغنياء بواجبهم الشرعي تجاه الفقراء ، بل أوجد التشريع الإلزامي المتمثل بفريضة الزكاة باعتبارها حقاً معلوماً للفقير من واجب الدولة القيام لتحصيله من الأغنياء وتوزيعه على الفقراء ، وبالتالي لا يبقى الفقراء تحت رحمة الأغنياء   .
المطلب الثاني: وظائف النظام المالي الإسلامي: تطورت المالية العامة من حيث الوظائف التي تؤديها، فقد اقتصرت وظائفها في البداية على تمويل وظائف الدولة الثلاث، وهي الدفاع والأمن والقضاء، وكان ذلك متلائماً مع فكرة الدولة الحارسة ، التي لا تتدخل في الاقتصاد. أما في القرن العشرين وخاصة منذ الأزمة الاقتصادية الكبرى في الثلاثينيات فقد تطورت وظائف المالية تطوراً واسعاً يتلاءم مع فكرة الدولة المتدخلة في الاقتصاد.
أولاً: وظيفة الضمان الاجتماعي ، ويظهر في هذه الوظيفة العناصر التالية :
1)ضمان حد أدنى من الدخل للذين عجزوا بوسائلهم الخاصة من حيث العمل والملكية عن توفير هذا الحد. وتظهر في
أ- أصحاب الحاجة من الفقراء والمساكين . وبالنسبة لهذه المجموعة يعمل الإسلام على توفير حد أدنى من الدخول لهذا النوع من أصحاب الحاجة .
ب-  أصحاب الحاجة بسبب الرق ( عندما كان قائما ) ، ومن الفقهاء المحدثين من يرى أن سهم (( في الرقاب )) يمكن أن يصرف لأسرى المسلمين ، كما يمكن صرفه للأقليات الإسلامية ، التي تقع تحت حصار الأغلبية غير المسلمة ، التي تعيش معها .
جـ- الغارمون ومنهم الذين استدانوا لإصلاح ذات البين، فيعطون في إطار النظام المالي الإسلامي تشجيعاً لهذا النوع من الأعمال، الذي يحفظ الوئام للمجتمع الإسلامي.
د- مجموعة من العناصر الأخرى تظهر في هذه الحقيقة، ومنها الإعانة على التعليم، والإعانة على الزواج، وغير ذلك من الأعمال ذات الطابع الاجتماعي. ويمكن الوقوف على تفصيل ذلك بدراسة حالة المجتمع الإسلامي في عهد عمر بن عبد العزيز ، عندما جمعت الزكاة ولم يوجد مستحقين لها فوجهها عمر إلى إنفاقات جديدة .
2- يتضمن أداء هذه الوظيفة إحداث نوع من التوازن الاجتماعي والاقتصادي في المجتمع الإسلامي.
3- تمد مظلة التأمين في هذه الوظيفة فتشمل غير المسلمين، الذين يعيشون في ظل الدولة الإسلامية.
4- هذه هي الوظيفة الأولى للمالية الإسلامية ، والوظيفة التي تناظرها في المالية العامة ، هي وظيفة إعادة التوزيع ، ويتبين من مقارنة الوظيفتين أن الأداء الاجتماعي للوظيفة الإسلامية أكفأ ، وذلك من حيث العناصر التي تشملها ، إذ أنها تتضمن عناصر ليس لها نظير في المالية العامة ، في الاقتصاد الوضعي .
وتظهر كفاءة الوظيفة الإسلامية في الضمان الاجتماعي أيضاً من حيث إن مرتكزها يتحدد في علاج الحاجة ، بينما نظيرها في المالية العامة ، يدور حول فكرة إعادة توزيع الدخل والثروة ، وهي فكرة مرتبطة بالصراع كما أنها تتضمن الاعتداء على الملكية الخاصة .
ثانيا: وظيفة المصالح العامة : ويدخل في هذه الوظيفة كل ما يكون ضرورياً للمجتمع الإسلامي ، ومن ذلك ما يلزم للدفاع والأمن ، ويدخل أيضاً ما يلزم للتنمية ، إذا كان المجتمع الإسلامي في حالة تخلف .
ثالثا: وظيفة مواجهة الحالات الطارئة وغير العادية مثل المجاعات والحروب وغير ذلك مما ذكره الفقهاء . وتمول هذه الوظيفة في النظام المالي الإسلامي ، بما يكون موجوداً في بيت المال ، فإذا لم يكن به فللحاكم أن يوظف على الأغنياء بقدر ما يزيل الحاجة التي وظف لها ( التوظيف تناظره الضرائب في المالية العامة ) .
رابعا:  وظيفة تحقيق التوازن والاستقرار بين أجيال الأمة الإسلامية . ومن الموارد التي استخدمت لأداء هذه الوظيفة أرض السواد ، وهو ما فعله عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، وكان من أقواله في ذلك : إذا وزعت هذه الأرض فماذا يبقى لمن يجيء بعدكم .
خامسا: وظيفة تخصيص الموارد الاقتصادية ؛ وهي وظيفة تبحث في توزيع الموارد الاقتصادية المتاحة في المجتمع على الأنشطة الاقتصادية ، التي تلزم له ، كما يدخل فيها أيضا توزيع الموارد بين القطاعين العام والخاص . وهذه الوظيفة ، عمل الإسلام على تأديتها بواسطة الأموال التي تمتلكها الدولة ، ومنها- :أرضى الحمى.     -  الأرض المفتوحة المناجم والمعادن .
- المرافق الأساسية الضرورية للمجتمع ، والتي يشير إليها حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : (( الناس شركاء في ثلاثة ـ الماء والكلأ والنار.
وعند المقابلة بين هذه الوظيفة في النظام المالي الإسلامي ،وفي المالية العامة ، يتبين أن أداءها في الإسلام أكفأ لأن الدولة تؤديها من خلال ملكيتها ، بينما في المالية العامة في النظام الرأسمالي تحاول الدولة تأديتها بالتدخل في الأثمان ، وهذا النوع من التدخل قد يحقق هذه الوظيفة ، كما أنه قد لا يحققها .

لقد ارتضى المولى- عز وجل- للأمة الاسلامية الدين الإسلامي وأتم نعمته عليها بهذا الدين الحنيف،
فشرع القواعد ، والمبادئ العامة التي تسير على هداها البشرية، و ان التزام هاته الامة بدينها في كل جوانب الحياة خاصة بالنظام المالي الاسلامي هو طريقها لتحقيق التطور. خاصة أن هذا النظام قد سبق الأنظمة الوضعية بشوط كبير لما يتميز به من قدرة على حل المشاكل و المرونة مع ثبات القيم المستمدة من الشريعة الاسلامية و التي تبعث في الأفراد روح المسؤولية و الولاء و الإخلاص في تطبيقه، و جهلنا هو ما جعلنا نتخلى على ها النظام. لذا لابد لنا من مراجعة مواقفنا خصوصا في ضل ما نتخبط به من مشاكل بسبب الأنظمة الوضعية.
فالنظام الاسلامي يتميز بتنوع موارد و رشاد انفاقه لذا أصبح من اللزام تطبيق النظام الاسلامي عامة و في الجانب المالي خاصة للنهوض بالدولة الإسلامية و النجاح في تعبئة الموارد لتحقيق التنمية

0 التعليقات: